سورة آل عمران - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} يسرون بما أنعم الله عليهم وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة {وَأَنَّ الله} عطف على النعمة والفضل. {وإن الله}: عليٌّ بالكسر على الاستئناف وعلى أن الجملة اعتراض {لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين} بل يوفر عليهم. {الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول} مبتدأ خبره {للذين أحسنوا}، أو صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح {مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح} الجرح. روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب النبيّ أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، فخرج يوم الأحد من المدينة مع سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، وكان بأصحابه القرح فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا} {من} للتبيين. مثلها في قوله: {وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح: 29]. لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم {أَجْرٌ عَظِيمٌ} في الآخرة.
{الذين قَالَ لَهُمُ الناس} بدل من الذين استجابوا {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} روي أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل. فقال عليه السلام: «إن شاء الله» فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال: يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وقد بدا لي أن أرجع فالحق بالمدينة، فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: أتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم فوالله لا يفلت منكم أحد فقال عليه السلام: «والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد» فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون {حسبنا الله ونعم الوكيل} حتى وافوا بدراً وأقاموا بها ثماني ليال وكانت معهم تجارة فباعوها وأصابوا خيراً، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ولم يكن قتال، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا: إنما خرجتم لتأكلوا السويق. فالناس الأول نعيم وهو جمع أريد به الواحد أو كان له أتباع يثبطون مثل تثبيطه، والثاني أبو سفيان وأصحابه. {فاخشوهم} فخافوهم {فَزَادَهُمُ} أي المقول الذي هو {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} أو القول، أو نعيم {إيمانا} بصيرة وإيقاناً {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} كافينا الله أي الذي يكفينا الله.
يقال أحسبه الشيء إذا كفاه وهو بمعنى المحسب بدليل أنك تقول (هذا رجل حسبك) فتصف به النكرة لأن إضافته غير حقيقية لكونه في معنى اسم الفاعل {وَنِعْمَ الوكيل} ونعم الموكول إليه هو {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله} وهي السلامة وحذر العدو منهم {وَفَضْلٍ} وهو الربح في التجارة فأصابوا بالدرهم درهمين {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدو وهو حال من الضمير في {انقلبوا}، وكذا {بنعمة} والتقدير: فرجعوا من بدر منعمين بريئين من سوء {واتبعوا رضوان الله} بجرأتهم وخروجهم إلى وجه العدو على أثر تثبيطه وهو معطوف على {انقلبوا} {والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا. {إِنَّمَا ذلكم الشيطان} هو خبر {ذلكم} أي إنما ذلك المثبط هو الشيطان وهو نعيم {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي المنافقين وهو جملة مستأنفة بيان لشيطنته، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة و{يخوف} الخبر {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} أي أولياءه {وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} لأن الإيمان يقتضي أن يؤثر العبد خوف الله على خوف غيره. و{خافوني} في الوصل والوقف: سهل ويعقوب، وافقهما أبو عمرو في الوصل.
{وَلاَ يَحْزُنكَ} {يحزنك} في كل القرآن: نافع إلا في سورة الأنبياء {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] {الذين يسارعون فِى الكفر} يعني لا يحزنوك لخوف أن يضروك ألا ترى إلى قوله {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} أي أولياء الله يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم وما وبال ذلك عائداً على غيرهم. ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله {يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الآخرة} أي نصيباً من الثواب {وَلَهُمْ} بدل الثواب {عَذَابٌ عظِيمٌ} وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه، والآية تدل على إرادة الكفر والمعاصي لأن إرادته أن لا يكون لهم ثواب في الآخرة لا تكون بدون إرادة كفرهم ومعاصيهم.
{إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} أي استبدلوه به {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} هو نصب على المصدر أي شيئاً من الضرر. الآية الأولى فيمن نافق من المتخلفين أو ارتد عن الإسلام، والثانية في جميع الكفار أو على العكس {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ} وثلاثة بعدها مع ضم الباء في {يحسبنهم} بالياء: مكي وأبو عمرو، وكلها بالتاء: حمزة، وكلها بالياء: مدني وشامي إلا {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} فإنها بالتاء. الباقون: الأوليان بالياء والأخريان بالتاء. {الذين كَفَرُواْ} فيمن قرأ بالياء رفع أي ولا يحسبن الكافرون. و{أن} مع اسمه وخبره في قوله {أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ} في موضع المفعولين ل {يحسبن} والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا إملاءنا خيراً لأنفسهم. و{ما} مصدرية وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف.
وفيمن قرأ بالتاء نصب أي ولا تحسبن الكافرين وأنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الكافرين، أي ولا تحسبن أن ما نملي للكافرين خير لهم، و{أن} مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين، والإملاء لهم إمهمالهم وإطالة عمرهم. {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} {ما} هذه حقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون الأولى، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم؟ فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً. والآية حجة لنا على المعتزلة في مسألتي الأصلح وإرادة المعاصي {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
اللام في {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين لتأكيد النفي {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} حتى يعزل المنافق عن المخلص. {يميز}: حمزة وعلي. والخطاب في {أنتم} للمصدقين من أهل الإخلاص والنفاق كأنه قيل: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} وما كان الله ليؤتي أحد منكم علم الغيوب فلا تتوهموا عند إخبار الرسل بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب إطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} أي ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأن في الغيب كذا وأن فلاناً في قلبه النفاق وفلاناً في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة نفسه. والآية حجة على الباطنية فإنهم يدعون ذلك العلم لإمامهم فإن لم يثبتوا النبوة له صاروا مخالفين للنص حيث أثبتوا علم الغيب لغير الرسول، وإن أثبتوا النبوة له صاروا مخالفين لنص آخر وهو قوله {وَخَاتَمَ النبيين} [الأحزاب: 40] {فَئَامِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} بصفة الإخلاص {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} النفاق {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} في الآخرة.
ونزل في مانعي الزكاة {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ} من قرأ بالتاء قدر مضافاً محذوفاً أي ولا تحسبن بخل الباخلين و{هو} فصل و{خيراً لهم} مفعول ثانٍ، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعل {يحسبن} ضمير رسول الله أو ضمير أحد، ومن جعل فاعله {الذين يبخلون} كان التقدير: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خير لهم و{هو} فصل و{خيراً لهم} مفعول ثانٍ {بَلْ هُوَ} أي البخل {شَرٌّ لَّهُمْ} لأن أموالهم ستزول عنهم ويبقى عليهم وبال البخل {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} تفسير لقوله {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} أي سيجعل مالهم الذي منعوه عن الحق طوقاً في أعناقهم كما جاء في الحديث: «من منع زكاة ماله يصير حية ذكراً أقرع له نابان فيطوق في عنقه فينهشه ويدفعه إلى النار» {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيل الله؟ والأصل في ميراث موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وبالياء مكي وأبو عمرو، فالتاء على طريقة الالتفات وهو أبلغ في الوعيد، والياء على الظاهر.


{لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} قال ذلك اليهود حين سمعوا قوله تعالى: {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]. وقالوا: إن إله محمد يستقرض منا فنحن إذاً أغنياء وهو فقير. ومعنى سماع الله له أنه لم يخف عليه وأنه أعد له كفاء من العقاب {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا في الصحائف، أو سنحفظه إذ الكتاب من الخلق ليحفظ ما فيه فسمي به مجازاً. و{ما} مصدرية أو بمعنى {الذي} {وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ} معطوف على {ما}. جعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذاناً له بأنهما في العظم أخوان، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول: {وَنَقُولُ} لهم يوم القيامة {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي عذاب النار كما أذقتم المسلمين الغصص. قال الضحاك: يقول لهم ذلك خزنة جهنم، وإنما أضيف إلى الله تعالى لأنه بأمره كما في قوله {سنكتب} {سيكتب} و{قتلهم} و{يقول}: حمزة. {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من عقابهم {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر والمعاصي، والإضافة إلى اليد لأن أكثر الأعمال يكون بالأيدي فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب، ولأنه يقال للآمر بالشيء فاعله فذكر الأيدي للتحقيق يعني أنه فعل نفسه لا غيره بأمره {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} وبأن الله لا يظلم عباده فلا يعاقبهم بغير جرم {الذين قَالُواْ} في موضع جر على البدل من {الذين قالوا} أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم.
{إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} أمرنا في التوراة وأوصانا {أَلاَّ نُؤْمِنَ} بأن لا نؤمن {لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} أي يقرب قرباناً فتنزل نار من السماء فتأكله فإن جئتنا به صدقناك، وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله لأن أكل النار القربان سبب الإيمان للرسول الآتي به لكونه معجزة فهو إذاً وسائر المعجزات سواء {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات} بالمعجزات سوى القربان {وبالذى قُلْتُمْ} أي بالقربان يعني قد جاء أسلافكم الذين أنتم على ملتهم ورضوان بفعلهم {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي إن كان امتناعكم عن الإيمان لأجل هذا فلم لم تؤمنوا بالذين أتوابه ولم قتلتموهم {إِن كُنتُمْ صادقين} في قولكم إنما نؤخر الإيمان لهذا {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} فإن كذبك اليهود فلا يهولنك فقد فعلت الأمم بأنبيائها كذلك {جَاءُو بالبينات} بالمعجزات الظاهرات {والزبر} الكتب جمع زبور من الزبر وهو الكتابة. {وبالزبر}: شامي {والكتاب} جنسه {المنير} المضيء. قيل: هما واحد في الأصل وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين، فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو الكتاب الهادي.
{كُلُّ نَفْسٍ} مبتدأ والخبر {ذَائِقَةُ الموت} وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من العموم، والمعنى لا يحزنك تكذيبهم إياك فمرجع الخلق إليّ فأجازيهم على التكذيب وأجازيك على الصبر وذلك قوله {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي تعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة فإن الدنيا ليست بدار الجزاء {فَمَن زُحْزِحَ} بعد، والزحزحة: الإبعاد {عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} ظفر بالخير. وقيل: فقد حصل له الفوز المطلق. وقيل: الفوز نيل المحبوب والبعد عن المكروه {وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، والشيطان هو المدلس الغرور. وعن سعيد بن جبير: إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. وعن الحسن: كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل لها {لَتُبْلَوُنَّ} والله لتبلون أي لتختبرن {فِى أموالكم} بالإنفاق في سبيل الله وبما يقع فيها من الآفات {وأَنفُسِكُمْ} بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليه من أنواع المخاوف والمصائب، وهذه الآية دليل على أن النفس هي الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطن كما قال بعض أهل الكلام والفلاسفة، كذا في شرح التأويلات {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} يعني اليهود والنصارى {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} كالطعن في الدين وصد من أراد الإيمان وتخطئة من آمن ونحو ذلك {وَأَن تَصْبِرُواْ} على أذاهم {وَتَتَّقُواْ} مخالفة أمر الله {فَإِنَّ ذلك} فإن الصبر والتقوى {مِنْ عَزْمِ الأمور} من معزومات الأمور أي مما يجب العزم عليه من الأمور، خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه.
{وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب {لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} عن الناس بالتاء على حكاية مخاطبتهم كقوله {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب لَتُفْسِدُنَّ} [الإسراء: 4] وبالياء: مكي وأبو عمرو وأبو بكر، لأنهم غيب والضمير للكتاب، أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم أي لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد، وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم، أو لجر منفعة أو دفع أذية، أو لبخل بالعلم، وفي الحديث: «من كتم علماً عن أهله ألجمه الله بلجام من نار» {واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} عرضاً يسيراً {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.
والخطاب في {لاَ تَحْسَبَنَّ} لرسول الله وأحد المفعولين {الذين يَفْرَحُونَ} والثاني بمفازة، وقوله {فلا تحسبنهم} تأكيد تقديره: لا تحسبنهم فائزين {بِمَا أَتَوْاْ} بما فعلوا وهي قراءة أبيّ و{جاء} و{أتى} يستعملان بمعنى فعل {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم: 61]. {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم: 27]. وقرأ النخعي {بما آتوا} أي أعطوا {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب} بمنجاة منه {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا من تدليسهم، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه، ناجين من العذاب. وقيل: هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة. وفيه وعيد لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه. {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} فهو يملك أمرهما، وفيه تكذيب لمن قال: {إن الله فقير} {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فهو يقدر على عقابهم.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لاَيَاتٍ} لأدلة واضحة على صانع قديم عليم حكيم قادر {لأُوْلِى الألباب} لمن خلص عقله عن الهوى خلوص اللب عن القشر، فيرى أن العرض المحدث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر، لأن جوهراً ما لا ينفك عن عرض حادث وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، ثم حدوثها يدل على محدثها وذا قديم وإلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى ما لا يتناهى، وحسن صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته، وبقاؤه يدل على قدرته، قال عليه السلام: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وحكي أنه كان في بني إسرائيل من إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه: لعل فرطة فرطت منك في مدتك. قال: ما أذكر. قالت: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر. قال: لعل. قالت: فما أوتيت إلا من ذاك {الذين} في موضع جر نعت ل {أولي} أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم {يَذْكُرُونَ الله} يصلون {قِيَاماً} قائمين عند القدرة {وَقُعُوداً} قاعدين {وعلى جُنُوبِهِمْ} أي مضطجعين عند العجز وقياماً وقعوداً حالان من ضمير الفاعل في {يذكرون}.
و{وعلى جنوبهم} حال أيضاً، أو المراد الذكر على كل حال لأن الإنسان لا يخلو عن هذه الأحوال، وفي الحديث: «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض} وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها مما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه من عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه، وعن النبي عليه السلام: «بينا رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لك رباً وخالقاً، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له» وقال عليه السلام: «لا عبادة كالتفكر» وقيل؛ الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكر. {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} أي يقولون ذلك وهو في محل الحال أي يتفكرون قائلين، والمعنى ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لحكمة عظيمة وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك، و{هذا} إشارة إلى الخلق على أن المراد به المخلوق، أو إلى السماوات والأرض لأنها في معنى المخلوق كأنه قيل: ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً {سبحانك} تنزيهاً لك عن الوصف بخلق الباطل وهو اعتراض {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الفاء دخلت لمعنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا.


{رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أهنته أو أهلكته أو فضحته، واحتج أهل الوعيد بالآية مع قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8]. في أن من يدخل النار لا يكون مؤمناً ويخلد. قلنا: قال جابر: إخزاء المؤمن تأديبه وإن فوق ذلك لخزياً {وَمَا للظالمين} اللام إشارة إلى من يدخل النار والمراد الكفار {مِنْ أَنصَارٍ} من أعوان وشفعاء يشفعون لهم كما للمؤمنين {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً} تقول: سمعت رجلاً يقول كذا، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف لم يكن منه بد وأن يقال سمعت كلام فلان. والمنادي هو الرسول عليه السلام أو القرآن {يُنَادِى للإيمان} لأجل الإيمان بالله، وفيه تفخيم لشأن المنادي إذ لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان {أَنْ ءَامِنُواْ} بأن آمنوا أو أي آمنوا {بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا} قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: فيه دليل بطلان الاستثناء في الإيمان {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} كبائرنا {وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا} صغائرنا {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم، والأبرار والمتمسكون بالسنة جمع (بر) أو (بار) ك (رب) وأرباب وصاحب وأصحاب {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} أي على تصديق رسلك، أو ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو على ألسنة رسلك، و{على} متعلق ب {وعدتنا} والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء. وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله والله لا يخلف الميعاد لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد إذ الوعد غير مبين لمن هو، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك يؤيده قوله {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} أو هو إظهار للخضوع والضراعة {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} هو مصدر بمعنى الوعد.
{فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} أي أجاب يقال استجاب له واستجابه {أَنّى} بأني {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} {منكم} صفة ل عامل {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} بيان ل {عامل} {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر كلكم بنو آدم، أو بعضكم من بعض في النصرة والدين، وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين. عن جعفر الصادق رضي الله عنه: من حزبه أمر فقال خمس مرات: {ربنا}، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ الآيات. {فالذين هاجروا} مبتدأ وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم إلى حيث يأمنون عليه، فالهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام {وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم} التي ولدوا فيها ونشأوا {وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى} بالشتم والضرب ونهب المال يريد سبيل الدين {وقاتلوا وَقُتِلُواْ} وغزوا المشركين واستشهدوا، {وقتّلوا}: مكي وشامي، {وقتلوا وقاتلوا} على التقديم والتأخير: حمزة وعلي.
وفيه دليل على أن الواو لا توجب الترتيب والخبر. {لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وهو جواب قسم محذوف {ثَوَاباً} في موضع المصدر المؤكد يعني إثابة أو تثويباً {مِنْ عِندِ الله} لأن قوله {لأكفرن عنهم ولأدخلنهم} في معنى لأثيبنهم {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} أي يختص به ولا يقدر عليه غيره.
وروي أن طائفة من المؤمنين قالوا: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع، فنزل {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد} والخطاب لكل أحد أو للنبي عليه السلام والمراد به غيره، أو لأن مدره القوم ومقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً فكأنه قيل: لا يغرنكم. أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه كقوله {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين} [القصص: 86] {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] وهذا في النهي نظير قوله في الأمر {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 7] {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ} (النساء 136).
{متاع قَلِيلٌ} خبر مبتدإ محذوف أي تقلبهم في البلاد متاع قليل، وأراد قتله في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} وساء ما مهدوا لأنفسهم {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ} عن الشرك {لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ} النزل والنزل ما يقام للنازل وهو حال من {جنات} لتخصصها بالصفة، والعامل اللام في {لهم} أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقاً أو عطاء {مّن عند اللّه} صفة له {وَمَا عِندَ الله} من الكثير الدائم {خَيْرٌ لّلابْرَارِ} مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل. {لكن} بالتشديد: يزيد وهو للاستدراك أي لإبقاء لتمتعهم لكن ذلك للذين اتقوا. ونزلت في ابن سلام وغيره من مسلمي أهل الكتاب، أو في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا.
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} دخلت لام الابتداء على اسم {إن} لفصل الظرف بينهما {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من القرآن {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من الكتابين {خاشعين للَّهِ} حال من فاعل {يؤمن} لأن من يؤمن في معنى الجمع {لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً} كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم وهو حال بعد حال أي غير مشترين {أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} أي ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعده في قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} [القصص: 54] {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} لنفوذ علمه في كل شيء. {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا} على الدين وتكاليفه. قال الجنيد رضي الله عنه: الصبر حبس النفس على المكروه بنفي الجزع {وَصَابِرُواْ} أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً {وَرَابِطُواْ} وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الفلاح: البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه، و(لعل) لتغييب المآل لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال. وقيل: اصبروا في محبتي، وصابروا في نعمتي، ورابطوا أنفسكم في خدمتي لعلكم تفلحون تظفرون بقربتي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما» والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5